السقف الأبيض
اتّصلنا بالحاج محمّد قانعي. كُنّا نعلم بإصابته البليغة، لكن لعمليّاته الجراحيّة الدّائمة والمفاجئة أحياناً، ودخوله المتكرّر للمستشفى حكاياتٌ أخرى لا يعرفها أحد. رجلٌ جادٌّ ووقور، والأهمّ من ذلك، أدبه الجم عند اللّقاء الّذي كان يجعلنا نتراجع عن القيام بالمقابلات الّتي تستدعي الحميميّة أثناء القيام بتدوين ذكرياتٍ بهذه الأهميّة. قمنا بالإتّصال به، وفتحنا الموضوع بقليلٍ من الأمل. فقال بلهجته الجادّة نفسها: "لديّ دروسٌ في يومي الأربعاء والخميس. ويوم الجمعة خاصٌّ بالعائلة، أستطيع العمل معكم في باقي الأيّام".
بعد ذلك الإتّصال، بدأت قصّة هذا الكتاب بعفويّةٍ، وبساطةٍ، ودون أدنى تصنّعٍ من الحاج. تقرّر يوم السّبت للّقاء الأوّل. كنّا قلقين لأنّه إنسانٌ مرتّبٌ ومنظّم، وهذا المنزل القديم (مكتب العمل)، الممتلئ بالغبار، ليس مكاناً مناسباً لضيفٍ مهمٍّ مثله؛ لذلك عاودنا الإتّصال به ثانيةً فقال: "لا ياعزيزي، لا مشكلة لديّ، سآتي!".
وجاء، في وسط الصّيف تحديدًا، كان يأتي كلّ يومٍ ما عدا تلك الأيّام الّتي استثناها مسبقاً. قُمنا بأربع وعشرين ساعة مقابلة حتّى انتهاء العمل. كانت تلك الأربع وعشرون ساعةً حكاية عمر كامل تحدّثنا عنه في اللّقاءات. استغرق تدوين المقابلات أكثر من عامٍ كامل؛ دونما تقديم أو تأخير أي ساعة من الساعات المسجلة. ساعدنا صبر الحاج محمّد عند القراءة والإجابة على الأسئلة بشكلٍ كبير.
ربّما؛ لو مرّ أحدهم بجانب شبّاك ذلك المنزل القديم، وسمع أصوات ضحكاتنا التي تتحول إلى قهقهات أحياناً، لن يصدّق أنّنا نُجري مقابلةً مع هذا الرّجل، الّذي تقرؤون ذكرياته في هذا الكتاب الموجود بين أيديكم الآن، والّذي قام بسبع وثلاثين مقابلةٍ في هذا الصدد. كان أملنا متوقّداً مثل غصن شجرةٍ قد غمرتها أشعّة الشّمس، وضاعفت قواها لتدوين المقابلات، ومتابعة أمور الطّباعة الصّعبة. إلى أن حمل دار نشر الشّهيد كاظمي، عبء هذه الأمانة بالنّيابة عنّا.
إنّ إصابة محمّد قانعي، الجريح بنسبةِ ستّين في المائة، الّذي أصيب من ناحية الرجلين، الحوض، الرّئتين، الجلد، العيون والأعصاب؛ هي إذا لم نصفها بالحالة المتفرّدة، لكنّها نادرةٌ في الحرب هذه. والأمل الّذي رافق هذا الرّجل في كلّ مرحلةٍ من مراحل حياته جديرٌ بالتّأمل. فلوقوفه على قدميه حكايات تستحق القراءة! ليتكم كنتم معنا، فحتّى قامته الطّويلة، ونظراته الصّلبة، ووجهه المفعم بالثّقة أثناء الحديث في المقابلة، هو أمرٌ يستحقّ المشاهدة.
لقد حدّثنا عن قدمين لم تستطيعا أن تُعيقا من حركته في وقتٍ من الأوقات؛ إلاّ عندما كان شوقه المستعر لرفاق دربه الشّهداء يحزّ في خاطره؛ لكنّه كان يخفي ذلك عن عيون الجميع.