صخب للاشيء
طلیعة
بدأت بتألیف هذا الکتاب کرد علی کتاب الدکتور ولید حمدي الأعظمي و الذي یحمل عنوان «النزاع بین دولة الإمارات العربیة و إیران حول جزر أبوموسی و طنب الکبری و الصغری في الوثائق البربطانیة» (۱۷۶۴ - ۱۹۷۱م) و قد صدر عن دار الحکمة في لندن عام ۱۹۹۳م. و کنت أعتقد أن التطرق إلی هذا الموضوع لن یتجاوز عن مقالة متوسطة من حیث الحجم و التفصیل في التعریف بالکتاب ونقده. ولکن ما إن کتبت ما یربو على صفحتین حتی وجدت أن بحث الموضوع بما یستحقه من الاهتمام أو "الإشباع" على حدّ قول القدماء، لن یکون ممکناً إلّا في إطار أوسع وأشمل، لذا اضطررت لاختیار طریق آخر، و اطلقت لقلمي العنان حتی لا یبقی أسیراً لطول المقالة أو قصرها.
لقد قرأت کتاب هذا المؤلف العراقي بشوق و ولع کثیر و ذلک بسبب اطلاعي السابق علی موضوعه. و تعود معرفتي به إلى ثلاثین أو خمس وثلاثين سنة سابقاً تقريباً، حیث کانت قد طرحت لأول مرة مسألة استغلال المصادر النفطیة تحت میاه الخلیج الفارسي، و قد أظهرت الشرکات النفطیة رغبتها في العمل في هذه المناطق. و من أجل هذا العمل, کان من الضروري تحدید حدود میاهنا الساحلیة [الإقلیمیّة] و رصیفنا القاريّ. و هذا التحدید الرئیسي, وفقاً للمعاییر القانونیة و الحقوقیة, کان یستلزم تعیین أکثر النقاط الحدودیة تقدماً في الساحل الأصليّ لإیران، کما قداستلزم تعیین الجزر المتعلقة بإیران في ماوراء الخط الحدودي المذکور.
الموقع الطبیعي [الجغرافي] للجزر:
کان ینظر إلی الکثیر من الجزر الصغیرة والصخور [القیعان الصخریةِ] المحاذية لها والمتناثرة في وسط الخلیج الفارسي، إلی قبیل زماننا هذا, کموانع في طریق الملاحة البحریة, أو تتخذ کملجأ للصیادین أو ملاذاً للمهربین. إن طنب الکبری و التی تقع علی بعد ۵۰ کلم من میناء لنجة (بندر لنگه)، کانت لها أهمیة کبیرة و ذلک لأنه ینبت فیها علف الحیوانات في فصل المطر، حتی أصبحت مرعی مناسبا لقطعان الأغنام و الماشیة، و لیس لطنب الصغری أهمیة تذکر حتى من هذه الناحیة، أما أهمیة جزیرة أبوموسی الواقعة علی بعد ۶۷ کلم من میناء لنجة والّتي هي الأکبر و الأکثر ملائمة للعیش فیها، إنّما هي لما یوجد فیها من [معادن] الأکسید الأحمر. و في النصف الثاني من القرن العشرین والذي أتحدث عنه هنا، طرأت تطورات أخری ضاعفت من جدید أهمیة هذه الجزر اقتصادیاً و استراتیجیاً.
بریطانیا و الوصایة علی الشیوخ
لم یکن هناك قبل بضع و ثلاثین عاماً دولة باسم الامارات العربیة المتحدة إذ کانت إمارات شیوخ الساحل الجنوبي للخلیج الفارسي تحت المظلة البریطانیة. و هذا یعني أن بریطانیا هي التی کانت تتصرف باسم شیوخ رأس الخمیة و الشارقة و طنب و أبوموسی، و کان علی إیران التي تعتبر هذه الجزر جزءاً من أراضیها أن تتفاوض مع مسؤولي وزارة الخارجیة البریطانیة في لندن. و قد حضرت شخصیاً [المؤلف] في هذه المفاوضات حیث کنت آنذاك مستشاراً قانونیاً لشرکة النفط الایرانیة الوطنیة، و لم تفض تلك المفاوضات و المداولات والمساومات مع البریطانیین إلی نتیجة، فالطرف المفاوض [بریطانیا] کان مسيطراً [مستعمراً] یتذرع بحجة المحافظة علی حقوق من هم تحت حمایته، و الاعتماد علی مبدأ "استاتسكو" [المحافظة على الوضع القائم]، فهو حریص علی استمرار سیطرته هناك، و کان یطالب الطرف الآخر [إيران] أن یأتي بدلیل و یجیب إنه لماذا یعتبر الجزر جزءاً من أرضه؟ و لکنه في نفس الوقت کان یری أن لا حاجة لیقدم هو نفسه أي مستند أو وثیقة. لقد کانت تلك الجزر بالفعل خارج السیادة الایرانیة حوالي مائة عام، و کلما قامت إیران بصدد الاقتراب من هذه الجزر کانت تواجه بردة الفعل البریطانیة المحذرة و المهددة.
أما الآن فقد تغیّر الوضع، و انسحبت بریطانیا من مسرح أحداث الساحة [الساخنة]، و إیران هي المالك والمتصرف بالفعل فی الجزر. و فیما یتعلق بالتصرف في جزیرة أبو موسی فهو تصرف مبني علی التوافق مع المدعي نفسه، و هو الطرف الذي ادعت بریطانیا أن تحفظ لها حق في القضیة. و الآن ینازع الآخرون إیران بدعوی المطالبة بحق ذلك الطرف. و ایران حالیاً لم تعد وحدها مطالبة بتقدیم الأدّلة أو المستندات من أجل إثبات أحقیتها في الجزر, بل الطرف المدعي أیضاً یجب علیه أن یدلي بالأدلة و الوثائق التي تجعله یعتبر الجزر من حقه. و من المسلم أنه إذا وجد دلیل أو وثیقة فستکون بین وثائق وزارة الخارجیة البریطانیة. لقد سمعت منذ مدة أن هناك مجموعة تعمل في إحدی الجامعات البریطانیة و أخری في أحد المراکز في ألمانیا قچ اهتمت بالبحث و جمع الأدلة و الوثائق التي تؤکد صحة هذه الادعاءات؛ فماذا سیفعل أمراء الخلیج الفارسي إزاء هذا الوضع المعقد الذي یواجههم. و لقد کانت بریطانیا تتحدث عن حقوقهم في تلك الجزر لمدة مائة سنة, والآن وجد مدعون آخرون. لقد اتخذت بریطانیا من قیمص عثمان هذا ذریعة من أجل المحافظة علی نفوذها في الخلیج الفارسي دون منازع، وأولئك أيضاً، ولتحقيق أغراضهم، يثيروا الشغب والصخب كي لا تصفو المياه فلا يتيسر لهم صيد الأسماك بسهولة ولا تتحقق مآربهم بيسر.
وعلى أيّة حال، وفي ظل الوضع الراهن, قد طرحت ادعاءات باسم شیوخ و أمراء الخلیج الفارسي, واتخذ غیرهم القرارات باسمهم، وجعلوهم في وضع محرج وموضع سیئ، فلا مفر لهم سوى انفاق الأموال و استخدام الباحثین و الکتّاب والمؤرخین الحقوقین لینبروا لترتیب وتزویق وتحسین وجه هذه القضیة، و اضفاء نوع من الزینة على محيّا هذا الادعاء الذي هو على حدّ تعبیر الشاعر الإیراني سعدي الشیرازي لیس إلّا "المُغالاة المصطنعة" و[المفبرقة] أو "الغُلُو في الادّعاء" والمُغالاة فیه.
نظرة كليّة إلى کتاب ولید الأعظمي
وهکذا, فقد شعرت بالسرور عندما لاحظت أنّ السید ولید حمدي الأعظمي, الأستاذ الجامعي في العلوم السیاسیة، قد أخذ علی عاتقه دراسة وتحلیل مسألة "الجزر الثلاث" معتمداً علی الوثائق السریّة لوزارة الخارجیة البریطانیة. یقع کتاب الأعظميّ في ۲۰۰ صفحة، و یشتمل علی مقدمة و ستة فصول و ملاحق. و قد خصص الفصل الأول لتناول الجذور التاریخیة للاختلاف منذ أوائل القرن التاسع عشر و حتی العَقد الثالث من القرن العشرین. و تابعتْ الفصول الأخری تطورات المسألة في العقود اللاحقة و حتی نهایة سنة ۱۹6۲م. و مع مرور ثلاثین عاماً من ذلك التاریخ, أزیل الطابع و"الخَتم السّريّ" عن تلك الوثائق, وتیسّر للباحثین إبداء الرأي في قوة ووثاقة [مصداقیّة] تلك الوثائق. ولکن, وللأسف فإن السید الأعظمي لم یتمتع بالدقة و التّمعن العمیق والنقد والتحلیل العلمي, و لم یتجاوز عمله, على أكثر تقدير، عن نطاق ترجمة تلك الوثائق و النقل المبسّط والسطحيّ لمحتواها.
ینقل المؤلف في مقدمة کتابه القصیرة نسبیاً, عدداً من التُّرهات التي تعکسها وسائل الاعلام الغربیة حول سیاسة إیران التوسعیة ونشاطاتها التسلیحیة للعدّة الحربیّة، و یدعي المؤلف أن إیران منذ سنه ۱۹۹۱ م و حتی عام ۱۹۹۳م [عام نشر کتابه], قد قامت بشراء أسلحة بقیمة ملیارَي دولار من دولِ سُوقِ المشترکة [الجمهوریات التي استقلت حدیثاً عن الاتحاد السوفیاتي (سابقاً). المترجم], وأبرمت اتفاقیاتِ تعاون عسکرية مع بعض الدول. کما یضیف الأعظمي بأن للخبراء الروس نشاط في المشاریع المختلفة، من مثل مشروع تصنیع [مُونتاج] طائرات میغ ۲۹ في شمال إیران. و أن الصین باعت مفاعلاً نوویاً لإیران. وأنّ روسیا کذلك بدأت بإحداث مبنیَّین مفاعلَین نووبین لإیران. هذا بالإضافة إلی ما تمتلکه إیران من قبل من مفاعلات نوویة یبلغ عددها عشرة. و یذهب المؤلف إلی أن إیران وبمساعدة من الصین و کوریا الجنوبیة تسعى إلى إنتاج غازات سامة. و أنها تنوي کذلك من خلال شرائها لثلاث غواصات [تَحْبحريّة]، أن تجعل من جزیرة أبوموسی قاعدة لنشاطاتها البحریة, مثلما استخدمتها من قبل لشن هجماتها البحریة خلال الحرب الإیرانیة – العراقیة؛ و ... .
والمؤلف, و بعد هذه السَفسطات الخُزعبلاتیّة التي تکشف عن مبلغ ومِقدار صدقه وخلوصه [في موضوعیته] وحیادیّته، یتطرق إلی مذکرة التفاهم المؤرخة في ۲۹ نوفمبر ۱۹۷۱م حول جزیرة أبوموسی، و التي تمّت بین الشیخ خالد القاسمي حاکم الشارقة و حکومة إیران آنذاك؛ ویعتبرها "اِتفاقیة قسريّة", تمّ التوقیع علیها تحت الضغوط و التهدیدات الإیرانیة. ویذهب إلى أن الاِتفاقیة المذکورة یمکن اعتبارها ملغیة و بلا أثر [ولا مفعول], وذلك بالاستناد –حسب رأیه- إلی المادة ۵۲ من اِتفاقیة قانون المعاهدات [فِینّا ۱۹۶۹م] . و یذکر المؤلف أنه علی إثر توقیع هذه المذکرة, اتهم العراق بریطانیا في ۳ تشرین 1971م بالتساهل والمسامحة في المحافظة علی حقوق الحکام العرب, و من ثم قطع علاقاته السیاسیة مع کلّ من إیران و بریطانیا. کما اعترضت دولة الإمارات العربیة بعد یومین، فی ۲ کانون الأول ۱۹۷۱م علی استقرار القوات الإیرانیة في أبوموسی. و في الثالث من شهر دیسمبر هذا, قدّم کل من الجزائر و العراق و الیمن الجنوبي شکواهم إلی مجلس الأمن الدولي.