سفير القدس
في الأيام التي كان فيها طالباً بسيطاً يدرس في فرع الحاسبات بجامعة دافيس في كاليفورنيا، ما كان يدور في خلده أبداً أن ثورة ستندلع في وطنه منبثقة من الإسلام وتُطيح بالنظام الملكي الشاهنشاهي البالي؛ ولم يكن يتبادر الى ذهنه أن قاعدة التآمر والتجسس التي كانت تعشعش في سفارة امريكا في طهران ستسقط يوماً، وسيكون هو ـ ذلك الشاب الذي كان مقيماً في أمريكا لغرض الدراسة. مترجماً لوثائق التجسس وللرهائن الأمريكيين؛ وأنه سيأتي وقت يكون فيه من الدبلوماسيين المؤثرين والبارزين في وزارة الخارجية الايرانية. وما كان يرى حتى في المنام أنه سيغدو يوماً من وجوه الدبلوماسية على طريق المقاومة ضد اسرائيل وتحرير فلسطين، ولكن هذا هو ما حصل.
لقد جاءت الأيام التي عاش فيها حسين شيخ الاسلام ـ الطالب المتخرج من فرع الحاسبات في جامعة دافيس بكاليفورنيا ـ جميع هذه التجارب، ونجح في تسجيل أعمال ومواقف كبرى. كان هذا الشخص بمثابة أحد السائرين على خط الإمام الخميني(ره) هذا الرجل الذي أثار اهتمامات وهواجس الشباب النُجباء ودفهم الى العمل والنشاط.
يمكن اعتبار حسين شيخ الاسلام مثالاً للتحفز واستشعار التكليف، والمثابرة والتواضع. وهذا ما يمكن أن نلمسه بكل وضوح في مواضع مختلفة من مُذكّراته؛ سواء أثناء مدة دراسته في أمريكا، أم في مشاركته في أحداث الاستيلاء على وكر التجسس، أم في مرحلة خدمته في وزارة الخارجية وفي سنوات عمله في الجبهة العالمية للمقاومة. لقد كان رمزاً للثقة بالنفس، والعزم الراسخ والأمل بالمستقبل.
فقد كان قد تعلم من الإمام الخميني(ره) ومن آية الله الخامنئي امكانية تحطيم جدران الانغلاق وكان يعتقد بإمكانية تسجيل معجزات خارقة بقدرات متواضعة؛ مثلما تحقق في معجزات كالاستيلاء على وكر التجسس وحرب 33 يوماً لحزب الله في لبنان وبقدرات متواضعة.
لم تكن سياسة شيخ الاسلام من نمط المشاجرات اليومية الفئوية التي تشتت الانتباه وتبعث على انهيار القوى، وإنما كانت تنطلق من أسس رصينة ورؤية عميقة مُستقاة من منهج الإمام الخميني(ره).
فهو كان يرى أن أعدى الأعداء هي اسرائيل ومن بعدها أمريكا، وهذا هو أساس سياسته الداخلية أيضاً.
ومن هنا رأيناه ـ في دور تصدي مير حسين الموسوي لوزارة الخارجية ـ قد شارك في مؤتمر جبهة الصمود العربية وفي زمان تصدي علي أكبر ولايتي، كان على صلة وتواصل مع الفصائل اللبنانية والسورية المناضلة، وفي وقائع عام 2009م، وجّه مفكرون انتقادات حادّة لمير حسين الموسوي منبّهين إياه الى أن ما يقوم به إنما هو عمل مضاد للثورة، إلا أن شيخ الاسلام لم يجعل أهدافه الأساسية ضحية للصراعات الفئوية الداخلية. ومن جانب آخر كان قد اكتسب مهارات ساعدته على انجاز ما كان يرى فيه تكليفاً. كان اتقانه للغة الانجليزية ميزة نسبية وورقة رابحة للعمل المؤثر والفاعل في مجريات الاستيلاء على وكر التجسس.
الكتاب الذي بين أيديكم عبارة عن أجزاء من مُذكّرات السيّد حسين شيخ الاسلام. فقد أُجريت على مدى السنوات العشرة الماضية حوارات تفصيلية في وصف مُذكّرات السيّد شيخ الاسلام؛ ومنها خمس جلسات حوار عُقدت في مركز وثائق الثورة الإسلامية على مدى عام 2014م.
منذ أوائل عام 2019م وبمناسبة مرور اربعين سنة على الاستيلاء على سفارة أمريكا في طهران من قِبل الطلبة السائرين على نهج الإمام، أجريت حوارات مع السيّد شيخ الاسلام أجراها السيّد حسين تشارداولي، وبقيت هذه الحوارات تجري الى الأيام الأخيرة من حياة المرحوم شيخ الاسلام. ومن المؤسف أن هذا العمل قد توقف بوفاته المفاجئة.
والآن فإن النص الذي بين أيديكم جاء كحصيلة لتجميع هذه الحوارات التي دونتها السيدة راضية حقيقت، وتولى السيّد محمد محبوبي تقييمها وتنقيح محتواها.
كما أن تسمية الكتاب بهذا العنوان مُستقاة من ثناء قائد الثورة الإسلامية على المرحوم شيخ الاسلام في يوم القدس، عام 2020م.
لقد كان المرحوم شيخ الاسلام حقاً اسوة في التواضع؛ حيث كان يقول على الدوام إن من دواعي سعادته أنه كان يجالس في هذه الدنيا شهداء من أمثال سيد عباس الموسوي، وعماد مغنية، وفتحي الشقاقي، والشهيد سيد كاظم كاظمي (نذير) والشهيد الحاج قاسم سليماني. وسيكون إن شاء الله جليساً لهم أيضاً في دار الخلود، وأن تدوم نظرة محبته الى القائمين على أمر هذا الكتاب.
الدبلوماسي الثوري
النص الکامل لرسالة الشهيد السید حسن نصرالله بمناسبة رحیل حسين شیخ الاسلام، الذي تلی في حفل بعنوان «الدبلوماسي الثوري» هو کالتالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاه والسلام علي سيدنا رسول الله سيد الرسل وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
السلام عليکم ورحمه الله وبرکاته
ليتني أستطيع أن أکون بجانبکم وبينکم في هذا اللقاء المبارک وذکري أخينا الکبير والعزيز السيد حسن شيخ الاسلام (رضوان الله تعالي عليه)، ولکنني أعلم أنکم ستعذرونني وتتفهمون أن الظروف الأمنية لا تسمح لي بذلک.
ومع کل ذلک، بقلبي وروحي وکل أحاسيسي وکياني أشارککم في هذا الحفل.
لقد کان المرحوم الحاج حسين شيخ الاسلام بالنسبة لي ولجميع المنتسبين إلى حزب الله في لبنان أخا کبيرا وعزيزا وداعما ومساندا وعاشقا ومضحيا ومخلصا.
تعرفنا عليه في الأيام الأولى لتأسيس حزب الله في لبنان کحرکة جهادية إيمانية مقاومة في عام 1982، وتعاونا معه خلال جميع فترات مسؤولياته في وزارة الخارجية للجمهورية الإسلامية، وخاصة خلال فترات تواجده في منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون العربية والأفريقية، ومساعد وزير الخارجية وسفير الجمهورية الإسلامية في سوريا، ومساعد الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ومساعد رئيس مجلس الشوري الإسلامي للشؤون الدولية.
عملنا معا لمدة 38 عاما تقريبا لمواجهة الاعتداءات الصهيونية والأمريکية ومشارع الفتنة الداخلية والعديد من المؤامرات الکبيرة والخطيرة، في أصعب الظروف الإقليمية.
لقد کان الأخ شيخ الاسلام (رحمه الله) حاضرا معنا في کل هذه الفترات بفکره وعقله وحکمته وتدبيره وخبرته، وأيضا بأخوته ومحبته وتواضعه وصدقه وإخلاصه لله تعالي وللثورة الإسلامية وشعوب المنطقة.
لقد وجدناه إنسانا مؤمنا متقيا عارفا عابدا زاهدا بالمعنى الحقيقي للکلمة ومتصلا بالله تعالى باستمرار. أتذکر أنه في بعض الفترات الصعبة کان يبقى بجانبنا في لبنان لأسابيع وأحيانا لأشهر متتالية بعيدا عن عائلته الکريمة وأماکن عمله في طهران، وکان يعمل ليلا ونهارا دون کلل.
لقد کانت العلاقة الروحية والأخوية والإنسانية وعلاقة المودة الشخصية التي تربطني بالأخ شيخ الاسلام (رحمه الله) قوية جدا، وقد مکنني هذه الصداقة الطويلة من الاستفادة من خبرته السياسية والمهنية العميقة في هذا المجال، ومن معنوياته العالية وصفائه وأدبه وأخلاقه وصبره الشديد على المصائب والمحن.
عندما رحل عنا، شعرت أنا وإخواني أننا فقدنا جزءا غاليا من روحنا وکياننا. وعلي أي حال، فإن هذه الکلمات القليلة لا تفي حتى بأقل قدر من حق هذا الأخ الکبير الذي له فضل علينا وعلى المقاومة وشعوبنا المظلومة.
وفي هذه المناسبة، أتقدم مرة أخرى بأحر التعازي إلى کل فرد من أفراد عائلته، وأعتبر نفسي شريکا لهم في حزنهم. لقد زرتهم مرارا، وخاصة خلال فترة إقامتهم في دمشق، وتشرفت بلقائهم. کما أتقدم بالتعازي إلي جميع أقاربه وإخوانه وأصدقائه ومحبّيه، وأسأل الله تعالى لکم الصبر والرضا والتسلي، ولأخينا العزيز الرحمة والرضوان وعلو الدرجات، وأدعو الله أن يحشره مع الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) وأوليائه الصالحين والشهداء.
سيد حسن نصرالله
25 رجب 1442 هـ.ق







تعليقات الزوار