سر القلادة العسكرية المحترقة
كتاب "سر القلادة العسكرية المحترقة" من مجموعة حكاية الصالحين رقم (12) يتحدث عن ذكريات و مدونات الشهيد "مهدي طهماسبي" المدافع عن حرم أهل البيت علیهم السلام .
مجموعة " حكاية الصالحين " تحكي قصة الشهداء الايرانيين اللذين إستشهدوا في سورية والعراق دفاعاً عن حرم أهل البيت علیهم السلام.
مع ركْبِ السيدة زينب
في ربيع عام 1382هـ.ش، وقبل حلول شهر صفر حيث كنت في تلك السنين طالباً في كلية الضبّاط في مدينة إصفهان، انتشر خبرٌ مفاده إجراء مسرحية حول قضية أسر السيدة زينب. وكلّ من يريد التمثيل في هذه المسرحية يلزم عليه أنْ يذهب إلى حسينية الكلية للاختبار، فخطر في ذهني الذهاب لأُقدّمَ اختباراً في التمثيل لعل الله تعالى يوفّقني وأنجح في الاختبار. فذهبت إلى حسينية الكلية، وكان المخرج يختبر الطلاب في مجال التمثيل، فرأيت شخصاً بعمري نحيفاً ذو وجه بشوش جالساً في زاوية من الحسينية، فسلمتُ عليه وجلستُ بجانبه، فنظر اليّ وقال: (جئتَ لمرافقة قافلة السيدة؟) فأومأت برأسي للدلالة على الرضا، فانفتح الحديث بيننا، فقال: من أيّ بلدة أنتَ وما اسمك؟ وغيرها من الاسئلة للتعرف.
فلم تمض الّا بضع دقائق حتى أشار إلينا المخرج فتقدمنا فاختَبَرَنا معاً، فأعجبه تمثيلنا، وطبقاً للاتفاق ذهبت في اليوم التالي إلى الحسينية للتمرين. وكان مهدي ـ ذلك الشاب النحيف كثير المزاح ـ قد أتى قبلي، فلما رآني تقدم نحوي وصافحني وسلَّم عليّ. وبدأ المُخرج يوضّح الأدوار وأعطى لكل واحد من الممثلين دوره في المسرحية، فكان مهدي بدور ((سهل بن سعد الساعدي)) أحد أصحاب النبي الأكرم.
فأصبح عملنا بعد ذلك الدرس هو الذهاب إلى حسينية الكلية للتمرين على المسرحية. وكان مهدي كلما يقوم بدوره في المسرحية تخنقه العبرة ويستمر بالبكاء.
فهذا الشاب البشوش الذي كان يمازح الآخرين قبل أداء دوره التمثيلي، كان يبكي في كل مقطع من المسرحية، وكأنما انفتحت على مهدي نافذة من المصائب.
ولمَّا أراد قراءة نص العرض المسرحي اختنق بعبرته، فكان مهدي يبكي وفريق المسرحية يبكي لبكائه.
وفي أحد مقاطع المسرحية وهو مقطع دخول أُسارى أهل بيت النبي من باب الساعات وهم مكبّلون بالأغلال والسلاسل، وبنات الرسالة راكبات تلك النوق الهزل بلا وطاء كان مهدي يتأثر كثيراً ويضج بالبكاء ويصيح: ((ليتني لم أكن "سهلاً" ليتني لم آت إلى هنا ليتني قُتلتُ في كربلاء كيف لا وقد أركبوا بنتَ حيدر الكرار من غير وطاء وهي مقيدة بالسلاسل وأدخلوها السوق لينظر اليها الناسُ)). فجعل الأُخوة يُهدّئون مهدي ويصبّرونه، ويقولون له: إنَّ هذا مجرد أداء دور مسرحي لا أكثر. فسكت مهدي ولكن دموعه ظلّت جارية. لقد انصهرتُ وذابت روحي في تمثيل دور مهدي. فلم يكن دور مهدي مجرد تمثيل، بل كان مهدي في قلب الحدث، وكنَّا كلما أتينا إلى الحسينية نرجع إلى القسم الداخلي بعيون حمراء متورّمة.
فلما حان اليوم الأول من صفر انتهى عرض المسرحية، وكان مهدي يقوم بدور "سهل" لكن تمثيله لم يكن سهلاً فإنه كان يبكي في كلّ موضع من القصة، وكأنَّه كان يعالج سكرات الموت، وكلّ ذرة من كيانه تلتهب وتحترق لمصيبة آل الله.
انتهت مسرحية (مع قافلة السيدة زينب)، وقد تم اجراؤها بنجاح، الا أنَّ صحبتي وعلاقتي مع مهدي قد بدأت في ذلك الوقت، وقد عقدنا عهد الأُخوّة وأصبحنا إخوة حيث كنّا في كلية واحدة، لكنّنا لسنا في صف واحد، الا أننا كنّا معاً في جميع برامج الكلية، وأوقات الفراغ وأحيانا عند التجوال في المدينة.
انتهتْ دراستنا ولكن لم تنته صحبتنا وصداقتنا، ورجعتُ بعد أنْ انتهت فترة الدراسة إلى مدينتي ورجع مهدي إلى قم، وأصبح مدرّباً، وخلال هذه السنين أصبحت بيننا علاقات عائلية نزورهم ويزوروننا.
وكان مهدي يأتي إلى مازندران، وأنا أذهب إلى قم، ولم تكن علاقتي بمهدي على مستوى العمل فحسب بل كانت على أساس الأُخوَّة، بل فوقَ الأُخوّة.
وفي هذه الدنيا التي ينبغي أن تتوقع صدور فعل يدل على الاُخوّة لم يكن مهدي يبحث عن دليل يدل على ذلك، بل كان كيانه يدل على الاُخوّة. وفي السنين التي كانت بيننا علاقات ومزاورة لاحظتُ بعض التغييرات في سلوك وأخلاق مهدي، فقد صار حديثُه أكثر توازناً وسلوكه أكثر تأثيراً.
إنَّ مهدي الذي كان طالبَ كليّةٍ عامَ 1382هـ.ش يختلف كثيراً عن مهدي الذي أصبح مدرّباً عام 1395هـ ش، فقد غيّر من سلوكه وأعماله تماماً. فقد بذل الجهود حتى صار عندما يراه الناس يقولون: ما أشدَّ إخلاصه. كان يحمل معه دفتراً صغيراً دائما يكتب فيه ما يجري عليه كل يوم. ذات يوم سألته: ماذا تكتب؟ قال: ((أكتبُ أخطائي وأخطاء الآخرين)) فتعجبتُ وقلت: ولماذا تكتب أخطاء الآخرين فقال: ((كي أتذكرها ولا أُكرّرها أبداً)).
وحينما وقعت الحرب في سورية كان مهدي من جملة الذين تطوّعوا للجهاد، ومدينة خان طومان السورية كانت من جملة المدن التي امتلأت بعبير وعطر الشهداء في عام 1359هـ.ش، حيث استشهد مجموعة من المدافعين عن المقدسات في يوم مبعث النبي الاكرم، وكان من بينهم 13 شهيداً من مدينة مازندران، وفي تلك الأيام لم أكن على ما يرام، فقد استُشهد أصحابي، ولم يتم العثور على جثامينهم، وحتى الشهيد ابراهيم عشرية زميل وجار وصديق وأخي مهدي لم نعلم آنذاك هل هو شهيد أم جريح؟
اتصل مهدي بي وأراد أن يستخبر حالي ويطّلع على أخبار الشهداء، وقال في آخر حديثه وقبل أن يودّعني وهو مختنق بعبرته: ((ادعُ لي ان استُشهد أيضاً)) وهذا آخر اتصال بيني وبين مهدي، حتى وصلني خبر التحاق مهدي بقافلة كربلاء في ربيع عام 1395هـ.ش. في أواسط شهر خرداد بالتقارن مع ذكرى ارتحال السيد الإمام الخميني، وحظي بوسام حامل لواء السيدة زينب، وكان خبر شهادته بالنسبة لي صدمة كبيرة، فقد تمثلت جميع الذكريات التي كنتُ أعيشها معه أمام عيني من أول يوم عشته معه في مسرحية قافلة السيدة زينب حتى آخر اتصال للبحث عن أخبار الشهداء المدافعين عن المقدسات.
كان مهدي طهماسبي مدرّباً مبتكراً ومن النخب في المتفجرات قلَّ نظيره. وقد لقّبه تلامذته وزملائه في مركز "علويّون" للتدريب في قم (معلم الأدب).
كان ثابت القدم وسلوكه التواضع وكان مخلصاً وصادقاً. كان مهدي طهماسبي من شباب الجيل الثالث للثورة الإسلامية ولم يُدرك حرب الدفاع المقدس التي دامت ثماني سنوات، ولم ير السيد الإمام الخميني. وبسبب اقتدائه بسيدة نساء العالمين الصديقة الطاهرة وشدّة شوقه وولائه لها، سجّل اسمه في زمرة المظلومين وفي قائمة الشهداء المدافعين عن حريم آل الله دفاعاً عن الثورة الاسلامية المباركة. ومن هنا صممتُ على تأليف كتاب تحت عنوان (سرّ القلادة العسكرية المحترقة) على شكل ذكريات للشهيد المدافع عن المقدسات مهدي طهماسبي الذي هو عبارة عن قصص وروايات واقعية وحقيقية لذكريات ومدوّنات هذا الشهيد خلال 56 يوماً في سورية كان قد قضاها هناك خلال مرّتين تمّ ايفاده فيهما إلى سورية.
وهذا الكتاب خالٍ من أيّ سرد قصصي أو خيالي غير واقعي، واشتمل على كل ما رآه مهدي طهماسبي خلال سفره مرتين إلى سورية وكتبه في دفتر مذكراته قبل شهادته، وكذلك من خلال الاستفادة من بعض الكتابات التي تركها، والحواريات التي أُجريت مع أصحابه وأصدقائه وزملائه في الجهاد من باب أداء الواجب والأمانة مضافاً إلى الصداقة والأُخوة.
وتجدر الاشارة والتنبيه إلى أنَّ جميع الاسماء الواردة في هذا الكتاب التي هي من كتابة الشهيد هي أسماء جهادية ومستعارة من أجل رعاية المسائل الأمنية، وكذلك فإنّ نوافذ الرؤية التي تنفتح للمخاطب فيما يخص العمليات المشتملة على نقاط القوة أو الضعف هي من وجهة نظر نفس الشهيد ومن دون أي تصرف.
إنّ هذا الكتاب هو أحداثٌ حيّة لجندي مجهول من الجيل الثالث للثورة الإسلامية الذي ارتدى لباس الدفاع عن المقدسات للدفاع عن حريم آل الله في سورية. وهو الذي عاش حياته إلى جنب الناس وتعرّف عليهم وكان معهم. ولم يكن ملاكاً، ولم ينزل من السماء، بل كان مخلوقاً من التراب لكنه استطاع من خلال إخلاصه التعرف على طرق السماء، وقد تحمل العناء في طريق الوصول إلى قمة السعادة حتى وصل إلى كنز الشهادة ذلك الكنز الذي كان مفتاحه القلادة العسكرية المحترقة.
على أمَلِ أن يأخذ بيدي ـ كما كان ذلك في أول يومٍ رأيته فيه ـ في زمرة قافلة آل الله وأن يساعدني على ثبات القدم مع هذه القافلة.
علي ابراهيمي كتابي
شتاء عام 1396هـ.ش
الموافق ليوم شهادة أُمّ أبيها.
تعليقات الزوار